الأحد، 25 مارس 2012

إيميل


توقف الزمن طويلا في تلك الليلة .. ورحل الى الأبد في اليوم التالي..

ففي لحظة خطفت بصره ليحدق في عنوان الرسالة .. توقفت يده عن الحراك، وسكن مؤشر "الماوس" على العنوان:

-                        "ان كنت أنت.. فانا انا"

وراح  يتأمل في اسم المرسل..

لا شيء يوضح ان كان امرأة ام رجلا؟.. قريبا هو ام غريب؟.. شأنه كبقية الاسماء المستعارة التي يختفي وراءها الملايين من كل جنس ولون وشريحة في هذا الفضاء الواسع بلا حدود.

وعندما دقق في المصدر.. كان كل ما تمكن من تمييزه هو انها مرسلة من جهاز ما في نيوزيلندا.

وهو لا يعرف احدا من نيوزيلندا.. لكنما الفضول، وانفتحت الرسالة:

"عزيز...

واسمح لي ان ابدأ رسالتي بهذا الاسم او الصفة.. فانا لا اعرف ان كنت انت الـ"عزيز" الذي فقدته من ربع قرن ام شخصا آخر..وباختصار.. كنت ابحث في "النت" عن اسم المكان الذي ولدت فيه في وطني.. وقادني البحث الى موقع لك  على الشبكة.. والى عنوان بريدي يبدأ باسم "عزيز" .. لقد شدني الوصف الدقيق لقريتي.. حدودها.. تضاريسها.. طرقاتها.. "سوق الخضار واللحمة".. آثارها البيزنطية..ومعالمها المطبوعة في ذهني مذ غادرتها عروسا زفت الى مهاجر... لكنك يا "عزيز" لم تذكر "معصرة الزيتون" ولا "سنديانة الجبلي" أما زالت موجودة حتى الان"؟...

وما احتاج لكلمات اكثر من بقية الرسالة كي يدرك سبب خفقان قلبه الذي راحت نبضاته تتسارع مع اول كلمة قرأها وهو يحاول كشف الغامض في عنوانها الذي صعقه هو الآخر..او سر تلك الرعشة التي راحت تسري ببطء من قمة رأسه لاخمص قدميه وهو جالس على الكرسي محدقا بكل حرف فيها..

كانت "المعصرة" هي كلمة السر التي ضربت ذاكرته مثل صاعقة قوية في يوم عاصف مطير.. وادرك فورا ان التي كان يقرأ كلماتها في تلك اللحظة على الشاشة هي منى..

· منى.. معقول؟؟!!

نهض من مكانه وفرائصه تهتز بين مصدق ومكذب.. وبشكل عفوي التقط سيجارة اشعلها وراح يدور حول نفسه مرتبكا.. لا يدري ما يفعل سوى اعتصار ذاكرة ونحت ماض بسره الدفين.. وبين فينة وأخرى يحدق من مكان وقوفه بتلك الرسالة الظاهرة على الشاشة الصماء والتي قلبت حاله رأسا على عقب في اقل من ثانية.

· منى؟؟!!

عاد للجلوس مرة اخرى.. وكرر قراءة الرسالة مرة تلو اخرى.. وفي كل مرة يتوقف طويلا عند كلمة "أنا" التي ذيلت بها الرسالة.

· أنا .. منى.. ما اقرب التشابه في اللفظ..وما أذكى المحاولة..

وبتلقائية رد على الرسالة:

· بلى .. انه أنا .. يا منى.. وكيف انسى "معصرة الزيتون" و"سنديانة الجبلي"؟؟

كانت "المعصرة تتوسط الطريق الترابي الذي كانا يسيران يوميا عليه من القرية الى المدرسة مشيا على الاقدام.. بناء حجري قديم لكنه صامد قوي بحجارته الضخمة.. تدب فيها الحياة عندما يحين موعد "جدّ الزيتون كل عام ..فيتجمع أهالي القرية في ساحتها وسط اكوام من الأكياس المعبأة بحبات الزيتون المقطوفة من بساتينهم المجاورة لعصرها زيتاً وبيع "جفتها" وقودا للافران والمخابز.

وخلف "المعصرة" مباشرة.. تتسامق شجرة بلوط معمرة يسميها الاهالي "سنديانة الجبلي".. وهو رجل يقولون انه كان يكمن خلفها للعثمانيين عندما احتلوا القرية، ثم يصعد الى مغارة تخفيه عن اعينهم في بطن الجبل.

كان جذعها عريضا ولحاؤها كثيفا.. وفي مكان لم يكن يهتدي اليه سواه ومنى حفر جيبا في اللحاء سمياه "الخمّ".. فيه يخبئان رسائل حبهما الذي ولد مبكرا على الطريق الترابي وهما ذاهبان او عائدان من المدرسة.. وفي مواسم الحصاد.. وكانت الاشارة معروفة: ان مسح رأسه بيده، أو اسقطت هي كتاباً او دفتراً فهناك رسالة في "الخمّ"..

لكنها في آخر يوم رآها على ذلك الطريق لم تسقط شيئا.. وفي اليوم التالي قالوا انها سافرت مع والدها لتتزوج في الغربة.

كان عصيا عليه استيعاب ما حدث.. وكيف سارت الامور بعد رحيلها المفاجيء.. لكن ظهورها برسالة تحر عنه في تلك الليلة بعث فيه أشجان حب أبحر عميقا في قلبه من يوم ان ابحرت هي في غربة الحنين.

ووجد نفسه يرد برسالة ثانية من سطر واحد:

· "المعصرة" في مكانها.. وفي "الخمّ" تركت وردة..

وفي السطر الثاني كتب اسمه الكامل ورقم هاتفه المتحرك..

ثم مضت الدقائق بطيئة ثقيلة وهو واجم ساكن امام الشاشة بلا حراك..

لا شيء كان يمر وهو يواصل التحديق بجملة "رسالتك ارسلت بنجاح" غير شريط من الذكريات سكنت في قعر النسيان منذ أمد بعيد.. ومثلما فعلت.. فقد ارتحل هو الآخر .. وما عاد يعرف عن اخبارها شيئا.. لكنه لم يغفر ابداً لقدر خطفها منه في لحظة حلم تبعثر بعيدا عن الوطن..

وفي غمرة من التأمل اتجه نحو النافذة..

منذ ان قدم للعمل في هذه البلاد استهواه ارتفاع مبانيها التي تناطح السحاب.. وفي كل برج كان يتعالى في السماء، كان يرى تلك "السنديانة" الباسقة وهي تحرس حلمهما عندما يزوغان عن انظار الآخرين من خلف "المعصرة" لترك رسالة في "الخم" الذي حفره عزيز باحشائها.

وراح ينظر للاسفل من حيث وقف.. كانت الساعة تزيد على منتصف الليل قليلا.. لكن الحركة ما زالت نشطة في الشوارع..وضجيج السيارات يعكر صفو الهدوء الذي كان ينشده في تلك اللحظة كي يتصالح مع زمن فرّ منه في لحظة هرّبوها منه الى مجهول.

كانت جميلة .. رشيقة في مشيتها.. غالبا ما تترك شعرها الاسود الطويل يتهادى على ظهرها في زيها المدرسي الاخضر.. وقبل ان تصل الى مفترق الطريق المؤدي الى "المعصرة" .. كانت تلمه وتغطيه بمنديل أبيض تخرجه من حقيبتها.

وكانت عيناها عسليتين..أحب فيهما طريقة استراقهما النظر اليه بين فينة واخرى مع ابتسامة خجولة باستحياء عندما يكون في الجهة المقابلة يتبعها على الطريق.. ولكن "غابة ناطحات الاسمنت" التي كانت عيناه تطوفان عليها كانت تحجب بقية من ملامح غابت عنه طويلا في عمق الزمن ..

ثم انقطع السكون برنة هاتف... فتسمر في مكانه وهو يرد بلهفة ويده ترتجف:

· هالو..

ومن غير ان يترك فرصة للرد من الطرف المقابل تابع : " انا عزيز.."

وكانت ثوان مرت كأنما الدهر كله قد مر في ثانية واحدة منها قبل ان ترد هي من الطرف الآخر:

-                        وانا منى يا عزيز..

ولم يتمالك نفسه.. فقد جاشت المشاعر.. وانحشرت الكلمات في الحلق.. وانهمرت دموع لا تُحبس على وجنتيه وهو يرد بصوت متهدج متقطع "عرفت فوراً .. والله اني عرفت من السطر الاول "..

وشعر بأن فجأة اللحظة باغتتها هي الاخرى من دون ميعاد او ربما اشتباك المشاعر.. فكانت تريد من يشجعها ايضا لتمسك برباطة جأشها قبل ان تكمل " وانا ما نسيتك يا عزيز.. ما أخبارك؟ .. ماذا تعمل؟.. متزوج؟..عندك اولاد"؟؟

كانت تريد معرفة كل شيء في لحظة.. ومن لهفته كان يريد أيضا ان تختصر كل السنين التي مرت بثانية او اثنتين.

وفي دقائق لم يعدّها أحد، عرف الكثير من عناوين التفاصيل التي تركا هوامشها للرسائل.. لكنه عرف انها رزقت بولدين وبنت.. وكل يعيش حياته الان بعد ان كبروا... اما زوجها فقد توفي قبل عدة اعوام بالسرطان.. وانها تدير مكتبا للعقارات..

وبين التفاصيل عرف ان صباح يومها اشرق منذ اربع ساعات هناك.. وكان يوم أحد..

· "وفي كل يوم أحد أذهب الى حديقة تتطاول فيها الاشجار باسقة كسنديان بلادنا يا عزيز..كما ان الطريق اليها جميل جدا.."

واصغى وهي تصف من سيارتها التي خرجت اليها:

" اتحرك الان من الكراج.. منزلي يقع على ربوة ريفية تطل على المدينة..الطريق امامي واسع وعريض.. وعلى الجانبين اشجار ومساحات خضراء بلا مدد. والمنازل كلها مثل بيتي .. طوب صغير وقرميد أحمر على الاسقف.. أخفف السيارة الان كي اقف عند اشارة المرور على مفترق الطريق المؤدي للحديقة.. انها خضراء الان.. اكمل طريقي.. احدهم خلفي يبدو مستعجلا.. كاد ان يصدم مؤخرة سيارتي "الجيب" .. المنظر حولي رائع وبديع.. أتعرف يا عزيز.. من هنا يبدأ يوم العالم ..أحيانا أخرج للشرفة فجرا كي ارى الشمس وهي تشرق.. ومع انبعاث اشعتها من خلف جبل بركاني بعيد يتولد عندي شعور باني اول انسانة على هذا الكوكب تتنسم فجر يوم جديد.. واليوم كان جديدا مختلفا يا عزيز.. اقترب الان من نفق توراكينا.. سأخرج من بعده فورا باتجاه الحديقة في مارتون. اتريد ان اخبرك عن سر هذه الحديقة؟ حسنا.. فيها شجرة أرز كبيرة.. حفرت عليها علامات بعدد السنين التي امضيتها في هذه البلاد.. وعلامات كثيرة بعدد المرات التي كنت أتذكرك فيها .. علامات حفرتها بالسكين الصغيرة نفسها التي كنت افتح فيها "الخمّ" في "سنديانة الجبلي"... وساحفر اليوم عليها علامة التقائي بك مرة اخرى بعد كل هذه السنين...."

وصمتت للحظة ثم استطردت : "هل تضحك مني؟".

وكان فعلا يضحك دون ان يعرف سببا لذلك .. لكن هذا اليوم حفر بئرا عميقة تفجرت أشجانا من الوجد، وايقظ حبه القديم في غفلة من حيث يرقد في ذاكرة النسيان.. وكان لا يريد لصوتها ان ينقطع.. فكل حرف تنطقه كان يستنطق عمرا ضاع في لجة من الألم الدفين..

لكن الخط انقطع وهي مسترسلة..

وعبثا راح يكرر طلب الرقم المشغول حتى فاجأه صوت أنثوي باللغة الانجليزية يعلمه ان الرقم خارج الخدمة .. وان يعاود الاتصال فيما بعد..

وحاول اقناع نفسه بان البطارية ربما فرغت من شحنتها... لكنما اكثر من ساعة مرت فقد بعدها كل امل في اتصال جديد... وكاد يجن..

قبل ربع قرن اختفت منه فجأة.. وفي تلك اللحظة غاب صوتها القادم من وجع الايام فجأة ايضا .. وها هو يسترجع منه كل نبرة منحته حنينا ولوعة في عدة دقائق.

وعاد يحاول.. لكنما لا شيء كان يرد سوى ذلك الصوت الانثوي برتابة قاتلة في هجيع تلك الليلة التي لم ينمها .. وحتى مساء اليوم التالي وهو يبحث مسكونا بقلق مخيف عن رسالة "ايميل" جديدة قد تصل منها وتفسر ما حدث..

لكن منى لم ترد..

وفي اليوم الذي تلا راح يدون ما اسعفه البحث في الشبكة من ارقام شرطة ومستشفيات.... وعندما وصل موقعا لصحيفة محلية، ارتعدت فرائصه وهو يقرأ عنوانا لخبر عن "مصرع سيدة بحادث سير بشع في نفق توراكينا"..

راعه وصف الحادث والصورة ايضا..

كانت سيارة "الجيب" ملقاة خارج النفق وقد تهشمت كانما قطار مر عليها "وعصرها" كالزيتون بداخلها.. وفي أعلى الكادر وجه امرأة تقدم بها السن، لكنها ما زالت جميلة بملامحها الشرقية المميزة.

وجه تفرس فيه بدقة.. هو الشعر الطويل نفسه.. نفس الوجنتين والشفتين.. ذات الذقن المحفورة قليلا من اسفل.. ونفس العنق الطويل الذي كان يتكيء برأسه عليه في لحظة العناق..

ولكن الالم ظل يعتصره طويلا وهو يحاول البحث مع ما تبقى من جثتها.. هاتفها الذي ربما تهشم على آخر كلمة سمعتها منه.. أو السكين الذي كانت ستحفر به على شجرتها هناك: "اليوم وجدت عزيز".




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق