الأحد، 25 مارس 2012

في بيتنا فيروس


   في خانة البحث كتبت "أسرة".. وانتظرت تدفق النتائج..

مواقع باسماء أسر... وأخرى " تأوسرت" تحت عنوان ما ..

لكن هذا ليس ما كانت تريد البحث عنه..

فقبل ان تعود الى جهازها الملقى الى جانبها على السرير، راحت تجول على غير هدى في ردهات البيت لعلها تبدد حالة قاتلة من الملل استبد بها.

في الصالة أمها تحدق في شاشة التلفاز وبيدها "الريموت" .. تبدل قناة بأخرى بحثا عن حوار يشحذ الذهن .. او برنامج يسلي توحدها مع صمت عميق تتخلله غفوات قصيرة بين حين وآخر على الكرسي الذي تجلس عليه.

وفي غرفة المكتب والد قلق لا يفارق شاشة الكمبيوتر.. يشعل سيجارة من عقب أخرى وهو يلاحق مؤشرا يصعد ويهبط باعصابه دون ان يثبت على وضع يخرجه من صفقة عملات خاسرة تورط فيها .. وما زال يضخ لها المزيد لانقاذها دون ان يلوح في الافق ما يظهر تحسنا في الوضع.

وفي الغرفة المجاورة شقيقها مستلقيا على السرير كعادته كلما عاد للبيت ، وعلى أذنه هاتفه، يتحدث همسا من خلف باب غرفته المغلق كي لا يسمعه احد.

وهي ما زالت تبحث عن معنى لكلمة "أسرة"..

· "انا لا يهمني كم يشعر الانسان بالبؤس.. فان كانت له أسرة فهو غني"..

وتقرأ ايضاً: ""ليس اللحم أو الدم.. وانما الحب هو الذي يجعلنا آباء وابناء".

و " الاسرة جنة في عالم بلا قلب" ..

و "لا احد دفع اسرة من قبل لكي تعيش لوحدها في صندوق كما فعلنا نحن .. فمن دون أقارب ورعاية، نجعل الوضع مستحيلا".

-                        هل نعيش المستحيل؟

عندما طرحت هذا السؤال على صديقتها قبل ايام في طريق عودتهما من دار سينما الى البيت، اجابتها الصديقة:

·  لا تحسدي غيرك.. فمثلك أنا.. أشعر باني كبرت في صندوق اعتدت ان أغلقه على نفسي باختياري.. وغالب الاحيان أرى ان هذا هو ما تركوه لي في بيت الاسرة.

كانت تريد القول انها تعاني مثلها ايضاً..

· تصوري.. انا لا اذكر اننا التقينا جميعا على مائدة طعام واحدة من سنين طويلة الا في المناسبات.. أو في مطعم.. وعندما نكون جالسين يهرب منا حضور اللحظة الى سديم فضاء آخر ليس من عالمنا الذي تعلمناه في المدرسة.

كل انساني تغير فينا منذ ان تبدلت الامور بين عشية قصيرة من الزمن وضحاها.. حينما انتعش الاقتصاد.. وزادت الاعمال.. وصار "البليب" على كل خاصرة.. وانتشرت "الدشات" على اسطح المنازل والبنايات بسرعة البرق.. ثم صار "الموبايل" في كل يد.. وصار في كل غرفة جهاز تلفزيون و"رسيفر".. وجهاز كمبيوتر..

وعندما تتأمل الان فيما كانت تبوح لها زميلاتها عما يفعلنه في غرفهن "التكنولوجية" .. تتراءى لها الآف البيوت التي تولد فيها أحلام وتنتهي في صندوق تحده أربعة جدران، لا يصلها بالعالم غير هاتف خاص او جهاز كمبيوتر..

وهي لم تختر ان تأتي لهذا العالم كي تكبر في صندوق..

أنجبوها فحملت إسم أسرة بالنسب سيلغيه إسم أسرة غيرها بالزواج .. نطقت بذات اللغة .. صلّت وصامت على طريقتهم .. كبرت على ثقافتهم .. وفي كل ذلك لم يسألها أحد عما تريد اختياره من ذلك، او ما لا تريد.. ما الذي تفضله من هذا وما لا تحب في ذاك.. لكنها تعايشت مع كل شيء من دون ان تحس بأن احدا كان يتعايش معها في كل مرة كانت تطفيء قهرها الدفين بدموع تبلل وسادتها قبل ان تنام وهي تردد : "غدا يوم جديد".

وتواصل القراءة في نتائج البحث:

· " انت لا تختار أسرتك، بل إنها هبة الله لك كما أنت هبته لها".

ومن تقول:

· "سَمِّها جماعة، سَمِّها شبكة، سَمِّها عشيرة.. فمهما أسميتها.. وكائناً من تكون أنت.. فانك بحاجة لواحدة منها".

وحاجتها للاحساس بكيان أسرة تنتمي اليه لا تضاهيه في لحظة ثورتها العارمة الان أية حاجة اخرى.

فقد سئمت محاولات العابثين للتحرش بها على "الشات".. ولم ترد على هاتفها اكثر من مرة .. واغلقته بوجه بعضهم مرات.. وتبادلت العديد من الرسائل القصيرة مع صديقاتها .. وبعد ان اغلقت باب غرفتها عليها .. لم يبق سوى هذا الجهاز الذي ما زالت تبحث فيه عن كلمة "أسرة".

· "غريزتنا الاساسية ليست من اجل البقاء.. بل من أجل الاسرة.. فمعظمنا مستعد ان يضحي بحياته لانقاذ حياة فرد في الاسرة".

لكنما لا يوجد ما يتطلب التضحية من اجله الان.. الجميع بخير، لكن كل منهم منصرف الى شأنه..

أمها تغفو في صالة البيت قبالة التلفاز.. وشقيقها ما زال يتحدث همسا في هاتفه.. ووالدها الذي ملأ البيت بعبق سجائره ما زال يتذمر من جنون مؤشر لا يستقر على شاشة الكمبيوتر على وضع يمنحه فرصة أخرى للذهاب الى الحمّام.

والبيت كأنما ضربه "فيروس" .. فعزل كل منهم منفردا في مكان هاديء .... لا حركة.. لا صوت غير ابواق سيارات بدا لها انها تسابق نفسها في الشارع المجاور.. أو ما يعلو احيانا من صوت متحاورين متعارضين على التلفاز.. او صدى طقطقة المفاتيح القادمة من غرفة المكتب مع ضربات بين الفينة والاخرى من قبضة والدها الحانق على الطاولة..

في تلك اللحظة صرخت باعلى صوتها :

· في بيتنا "فيروس"..

لم يتبين احد كلمة مما قالت.. لكن "الريموت" سقط من يد امها عندما صحت مذعورة من غفوتها على الكرسي.. واصطدم وجه شقيقها بباب غرفته بعدما قفز من سريره هارعا اليها.. واصيب والدها في خاصرته عندما وقف فجأة دون انتباه لزاوية الطاولة..

كانت الصرخة قوية يعصرها ألم مرير ..

· ماذا جرى؟

خرج السؤال من افواه الجميع الذين تحلقوا حولها في غرفتها في الوقت نفسه..

· افزعتني ..

قالت أمها بلهفة..

· ربما خسرت الصفقة الان..

قال ابيها متذمرا..

· لا بأس عليك يا اختاه..

قال شقيقها وهو يربت على كتفها قبل ان يعود ادراجه لاغلاق باب غرفته عليه تاركا امه ووالده يستنطقاها بشعور من القلق عليها .. لكنهما لم يجدا في غرفتها ما يفسر سببا لما صرخت من اجله..

وما كانت هي الاخرى تجيب.. فقد اصابتها فجأة الدخول عليها ملهوفين في وقت واحد بما صعب عليها تفسيره في الحال .. وزاغت عيناها وهي تحاول ايجاد رد سريع.. لكنها شعرت بأن ساقيها اللتان كانتا على وشك ان تسقطاها من خوف الفجأة كانتا تستعيدان قوتهما بسرعة لتقفا بثبات..

فكل شيء ثار في ذلك الصندوق قبل لحظات يبدده الآن شعورها بالأمان.. والرعشة التي تسارعت هزاتها في جسدها قبل ثوان بدأت تخفت تدريجيا وهي تحاول استجماع قوتها لقول اي شيء عن خطر تراءى لها وارعبها قبل الصرخة .. لكن لسانها لم يسعفها.. فما خطر لها ان تقوله كانت تتمنى لو تسمعه.. وما تريده كانت تتمنى لو يحدث الآن .. ان تندس امها الى جانبها في السرير كما كانت تفعل وهي طفلة تهديء روعها من الاحلام المزعجة بأغنية تتهادى الحانها بشجن تشتاق اليه قبل النوم..

ان يأخذها والدها في حضنه وهو يقبل رأسها معلنا قبوله بما خسره حتى الان على الشاشة ويجلسا يتحدثان أبا وابنة عما كان وعما يجب ان يكون ..

ان يخرج شقيقها من غرفته ليطرح فكرة الخروج معا الى مكان هاديء جميل..

ان يعود الجميع الى "الاسرة"..

لكنما كان يكفيها في تلك اللحظة شعورها بالأمان عندما تحلقوا حولها في لحظة غوث عاجل..

ومن هاتفها كتبت لصديقتها بعد ان خرجوا مطمئنين:

· "ربما يضعف هذا "الفيروس" مشاعرنا .. وقد يدمر الكثير من كل إنساني فينا .. لكننا نبدأ وننتهي مع الاسرة".

وارسلت...




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق