الأحد، 25 مارس 2012

الدكتور انترنت


كان كابوسا فظيعا جعلها تستفيق وقلبها يخفق بشدة.. ومع ان من عادة الموظفة سلوى العالم الحاصلة على شهادة قيادة الحاسب الآلي ان تشرب كاس ماء تبلل به فمها الجاف قبل ان تعرج الى الحمام.. الا انها هرعت في ذلك الصباح الى مرآة الزينة في غرفتها وهي تتحسس وجنتيها وعينيها .. وكان مفزعا ان ترى وجهها وقد تورم مثل ذراعيها وقدميها اللتين كانت تنظر اليهما بخوف شديد. وكان الالم موجعا في بطنها مع شعور بضيق صدرها مثل مرضى الربو.

ومثل من يهذي راحت تسائل نفسها مستغربة مما حصل لها.

فقد دخلت الى فراشها في الليلة السابقة مثل كل يوم.. كانت طبيعية وعادية جدا.. حتى انها انتظرت نهاية فيلم طويل قبل ان تغلق جهاز التلفاز، وفرشت اسنانها، ولم يفتها وهي تودع المرآة ان تغمز لنفسها مزهوة بجمالها قبل ان تمضي الى السرير لتغمض عينيها على فارس احلام يشبه بطل الفيلم الجريء الذي صنع لنفسه اسطورة من عدم..

لكن الوجه الذي رأته في الليل هو غير الوجه الذي تراءى لها في تلك اللحظة في المرآة نفسها.. الوجه منتفخ.. والعينان غائرتان خلف جفون تهدلت.. وانفها يكاد ان يستقيم مع خديها.. وشفتاها اكتنزتا بشكل ملحوظ..اما ذراعاها فقد استدارتا مثل اسطوانتين متساويتين.. وقدماها كما لو اصبحتا مثل قطعتين من الاسفنج تحملان جسدها..

والاسوأ من ذلك خفقان قلبها الذي كان ما زال يتسارع.. وشعور كان يتزايد ايضا بصداع حاد رغم انه لم يمض على استيقاظها من الفراش سوى بضع دقائق.

وحينما استدارت لتدلف الى الحمام، لفها شعور بالغثيان، وشعرت بان الغرفة تميد من حولها وكادت ان تسقط من طولها لولا انها تماسكت للحظة قبل ان تستعيد توازنها بوضع يدها على الجدار.. ثم اتجهت مباشرة عائدة الى سريرها لتستلتقي عليه.

مضت بضع دقائق شعرت كأنها دهر مر عليها وهي تتخوف من الاسوأ.. وبينما كانت تكرر الشهيق العميق والزفير لتهدئة نفسها من التوتر والقلق، تذكرت ما قرأته في احد المواقع النسائية على الانترنت: "عندما يرتفع ضغط الدم مع ظهور تورم في الوجه والعينين والأصابع وزلال في البول، سارعي إلى الاتصال بالطبيب فورا، فقد يكون هذا التوّرم خطيرا".

وفي تلك اللحظات المشحونة بالخوف مما تخبئه لها هذه الحالة المفاجئة، لم يكن بوسع سلوى العالم ان تخمن بان ما اصابها كان ارتفاعا مفاجئا في ضغط دمها ام كان غير ذلك، فهي لم تختبر مثل هذه الحالة من قبل.. وما تعرفه من حصيلة معرفتها الانترنتية هو ان ضغط الدم عادة ما يبدأ في الارتفاع عند الانسان بعد سن الخمسين، وهي ما زالت في ريعان شبابها..

كما انها لم تكتشف ان كان هناك زلال في البول.. فحتى ذلك الوقت الذي كانت ما تزال مستلقية خلاله على السرير، ما كانت قد دخلت الحمام بعد لترى ان كان هناك اي تغير حصل.

لكنها عندما بدأت تشعر بان خفقان قلبها راح يهدأ.. وصداعها يخف حدة.. مدت يدها نحو هاتفها المتحرك كي تبلغ مكان عملها بما حدث وتطلب اجازة للغياب.

وفي المرة الثانية التي نهضت فيها من السرير، نجحت في الاحتفاظ برباطة جأشها واستعادة توازنها بشكل افضل، وتوجهت لتحضر جهازها "اللابتوب" وتعود به الى السرير لتبحث عن موقع صحي زارته ذات مرة يمكنها من خلاله تشخيص حالتها بنفسها.

ولم تطل عملية البحث حتى راحت تجيب عن اسئلة النموذج المعد الذي ظهر امامها على الشاشة.. وكانت حريصة على ان تكون دقيقة في الاجابات قدر الامكان في وصف كل شيء رأته في مرآة زينتها بالتفصيل.. وربط ذلك بالحقول التي توالى ظهورها تلقائيا على الشاشة.. حتى وصلت الى السؤال الاخير، فانتظرت قليلا لتظهر نتيجة التشخيص بعد ذلك في عدة صفحات تسلسل فيها اكثر من 150 سببا مرضيا لما قدمته من معلومات، فقدرت ان في الامر ما يبعث على الخطورة فعلا.. وعندما قرعت والدتها باب غرفتها وهي غارقة في تلك الحالة الشديدة من الخوف .. لم تنتظر حتى ان تلاحظ الدهشة التي اعترت وجه امها.. فقد قفزت من السرير لتغسل وجهها قبل ان تعود مسرعة لارتداء ملابسها وتتجه رأسا الى طبيب العائلة بدفع من والدتها ايضا التي اصابها خوف وقلق مماثلين.

لكن الطبيب وقبل ان يكمل طرح اسئلته العامة اعطاها عنوانا تذهب اليه فورا لاجراء تحاليل خاصة ارادها، وفعلت.. فكانت النتيجة اشد ابهاما وغموضا: ارتفاع عال في نسبة السكر، وزيادة كبيرة في الأحماض الأمينية في مجرى الدم، وتركيز عال من "الفينيل الانين"، وهناك أيضا آثار للميثانول.

وعندما عادت للانترنت قبل ان تعود مع نتائج التحاليل الى طبيبها، وجدت ان الامر اسوأ مما كانت تعتقد..

فارتفاع نسبة السكر يعني عواقب وخيمة على القلب والاوعية الدموية والعيون التي انتابتها غشاوة هي الاخرى وهي تطالع صفحات الانترنت واحدة تلو اخرى.. والزيادة الكبيرة في الاحماض الامينية يمكن أن تسبب العديد من المشكلات الصحية، و تراكم "الفنيل الانين" بتركيزات عالية يمكن أن يسبب تلفا بالمخ، اما الاخطر فهو الميثانول، والذي يعني وجود حتى كميات بسيطة منه احتمال التسبب في العمى وتورم المخ والتهاب البنكرياس وعضلة القلب وحدوث تسمم.

وللحظة تصورت انه ما عاد يفصلها عن الموت سوى الوقت الذي تستطيع فيه اللحاق بالطبيب قبل ان تتدهور حالتها اكثر.. وتصورت انها قد تكون آخر مرة في حياتها تفتح فيها جهاز "اللابتوب"..

وقبل ان تخرج في طريقها مرة اخرى للطبيب أطالت في تقبيل والدتها وهي تبكي، وما أثار استغراب والدتها اكثر هو الحاحها في الطلب منها لتقبيل والدها واخوتها كثيرا بالنيابة عنها، وان تبلغهم كم كانت تحبهم جميعا .. فقد تراءى لها انها لن تراهم بعد الان.. ومع ان امها راحت تبالغ في طمأنتها والتقليل من حالة الرعب التي اثارتها في نفسها، الا ان سلوى العالم كانت قد حسمت الامر بانها قد لا تعود ثانية من قسم الطواريء الى اشيائها الجميلة في البيت الذي لم تتخيل ان تفارقه يوما.. ملابسها.. العابها.. اللوحات التي علقتها على الجدران.. نبتة الصبار التي اشترتها قبل يومين وهي عائدة من العمل لتزين بها ركنا في غرفتها.. سيارتها التي شعرت في لحظة بانها تحولت الى نعش ينقلها جثة حية في الطريق الى غرفة العمليات.. الشارع الذي اعتادت ان تسير عليه في كل يوم..

كل شيء كان يتوارى خلفها وهي تقود السيارة بيدين مرتجفتين كانت تشعر بانها تراه للمرة الاخيرة في حياتها..

حتى الدقائق والثواني التي كانت تفصلها عن الوصول الى عيادة الطبيب.. كانت تعدها الواحدة تلو اخرى.. وكل دقيقة تمضي منها تشعر بانها تقربها دقيقة اخرى نحو اجلها المحتوم.

وبين الطابق الارضي والاول حيث العيادة كادت ان تسقط مغشيا عليها في غرفة المصعد لولا ان امسكت مريضة اخرى كانت في طريقها للطبيب نفسه بذراعها.. وادخلتها معها شاحبة الوجه وعلى وشك ان تتقيأ، وهو ما استرعى نظر الممرضة التي سارعت اليها لتدخلها مباشرة الى غرفة مجاورة ينفتح باب منها على غرفة الفحص.

وبتمعن شديد.. راح الطبيب يطالع نتيجة التحاليل وهي تتابع حركة عينيه السريعتين من مكانها على الكرسي.. ثم باغتته قائلة:

-       الحالة خطيرة .. وانا مستعدة..

ومن دون ان يرفع عينيه عن الاوراق البيضاء والصفراء والخضراء التي كان يحملها بيديه سألها بابتسامة تبعث على الاطمئنان:

·       ما هو الخطير؟ .. وما الذي استعددت له؟

اجابته بصوت واهن:

-       حالتي.. قد تفاجئني النوبة القلبية في أي وقت.. وانا مستعدة حتى لعملية قلب مفتوح ان قررت ذلك.

فنظر اليها مستغربا وتابع:

-       ومن ابلغك بذلك؟

·       انا يا دكتور.. لم اترك صغيرة او كبيرة عن الحالة دون ان اتتبعها على كل موقع صحي وجدته على الانترنت.

وراحت تفسر له معنى كل نسبة وردت في الاوراق التي يحملها.. نسبة السكر والاحماض الامينية والفينيل الانين والميثانول،  وتاثير كل واحد منها على الدماغ والقلب والكبد والكلى والعيون، فيما هو منصت باهتمام وهو يحدق فيها باندهاش.

وعندما انتهت اجابها ساخرا:

·       ولهذا استعددت لعملية قلب مفتوح؟

هزت رأسها بالايجاب..

لكنه هز كيانها حينما صاح في وجهها مؤنبا:

·       اذن لماذا لم تدعي "الدكتور انترنت" يجري العملية ايضا؟

وادركت على الفور ما كان يرمي اليه.. فقد جعلت من نفسها طبيبا من بضع معلومات قرأتها على غير هدى.. لكن هذا الادراك لم يبدد حالة الخوف التي كانت تعيش فيها مثل غريق كان يبحث عن قشة يتمسك فيها للنجاة.

وكان الطبيب مدركا لهذه الحالة ايضا، فسألها:

-       هل تتناولين مشروبات "دايت"؟

وردت بالايجاب.

فكرر السؤال:

-       كم عبوة في اليوم؟

واجابت:

-       من ست الى ثماني؟

·       ولماذا؟

-       رغبة في التخسيس

·       الم تقرئي عن "الاسبارتام" ايضا في الانترنت؟

ولم تفهم ما كان يرمي اليه.. لكنها فهمت ان حالتها ما كانت تحتاج كل هذا القلق.. وان مئات الاسباب التي قرأت على الانترنت انها تؤدي اليها لم يكن لها ادنى علاقة بحالتها.. وان علاجها بسيط للغاية، وهو ان تتوقف عن تناول النوع الذي تشربه.. فهو مضاف بالمحلي الصناعي "الاسبارتام".. والذي قال لها الطبيب قبل ان تخرج من عنده مستعيدة كل هدوءها ومبددة كل المخاوف التي انتابتها انها افرطت في تناوله رغبة في الاحتفاظ برشاقتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق